الأحد، 2 نوفمبر 2014

كي لاننسى (في ذكرى الوعد المشؤوم)

أصدر جيمس آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا وعداً إلى اليهودي الصهيوني البارون روتشيلد في 2/11/1917 " إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وأنها ستبذل قصارى جهدها لتحقيق هذه الغاية ".

وعد بلفور مكون من (67) كلمة (حسب بعض ترجماته إلى اللغة العربية)، كرر بلفور فيه كلمة (اليهود) (4) مرات بينما وصف المواطنين الفلسطينيين العرب في فلسطين وصفهم بأنهم (الطوائف غير اليهودية)، مع أن نسبة سكان فلسطين في حينه كانت 13 مواطنا عربيا مقابل مستوطن يهودي واحد. ولم يذكرهم باسم عرب أو فلسطينيين ولا مسلمين ولا مسيحيين، مما يؤيد نظرة الاستعمار إلى مستقبل وطننا وامتنا، وبأننا مجرد طوائف صادف وجودها أو إقامتها في فلسطين، ولسنا أمة لها حضارة وثقافة مشتركة.

الطائفية أداة فعّالة طالما استخدمها الاستعمار في وطننا لتبرير فرض مصالحه بتمزيق وطننا وبدعوى حماية طائفة ضد أخرى وهذا ما جرى في لبنان وسوريا في العام 1860 التي حصدت عدداً كبيراً من المواطنين المسيحيين وغيرهم.
ولولا سطوة بريطانيا التي احتلت القدس بعد خمسة أسابيع من تاريخ إصدار وعد بلفور, ولولا الأداء المؤسسي المؤثر للحركة الصهيونية ولولا ضعف وانقسام العرب لبقي وعد بلفور مجرد ورقة ضمن كم هائل من الرسائل والتقارير البريطانية التي كان يقال أنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
كثيرة هي العوامل التي جعلت من وعد بلفور حقيقة مؤلمة ما زالت تعاني منها أجيال الفلسطينيين والعرب للجيل الخامس على التوالي، ومن هذه العوامل :
١. استدراج الدولة العثمانية إلى حرب أوروبية, هي الحرب العالمية1914 -1918. مما أدى إلى إلحاق الأذى العميق والشامل بالناس الذين سيق معظم رجالهم إلى جبهات القتال، وقطعت كثير من الأشجار لتصبح وقودا للقطارات، وذاق الجميع أهوال الجوع لدرجة كان بعض الناس يبحثون في روث خيول الجيش على حبة شعير, وضاعف من معاناة الناس وأوجاعهم ما عرف بعام الجراد.
٢. استدراج العرب إلى (الثورة) بدعوة تخليصهم وتحريرهم من ظلم الأتراك ورغم إن أسباباً كثيرة كانت تدفع العرب على رفض ما عانوا من جوع وتجهيل وقسوة إلا أن (المحررين) الإنكليز كانت طائراتهم الحربية تسقط منشورات على الوحدات العربية في الجيش العثماني تحضهم على الثورة وفيها كثير من الكلام عن شجاعة العرب ونخوتهم وحقهم في الاستقلال من نير الأتراك، وكانت المنشورات فيها عدد من آيات القرآن الكريم. وفي نفس الوقت كان سلاح الجو الانكليزي ذاته يسقط منشورات على تجمعات اليهود في أوروبا وبلغات مختلفة يزف إليهم خبر بوعد بلفور.
ومن المؤلم أن لا يعتبر العرب من ما تعرضوا له من غدر وخداع وان يدفعهم تعطشهم للتخلص من الطغاة إلى طلب العون من المستعمرين أنفسهم , وهذه النتائج واضحة وصارخة في العراق وسوريا وليبيا .
٣. بتر فلسطين عن سوريا وعزلها عن مصر والعمل على افتعال صراع داخلي بين الفلسطينيين أنفسهم مرة باسم تحرير الفلاحين من أهل المدن، وأخرى بدعوى تحرير المواطنين المسيحيين من اضطهاد المواطنين المسلمين, وأحبط وعي شعبنا هاتين المحاولتين الخبيثتين إلا إننا مع الأسف الشديد استدرجنا إلى ثنائية قبيلة انشقاقية, وهي الحزب العربي وحزب الدفاع وحسيني ونشاشيبي وفتوة ونجادة وكوفيات وطرابيش .
ومن المعيب إن نسقط مرة أخرى في ثنائية انشطارية ألحقت الضرر الأليم في الوطن والمواطنين والقضية وهذه المرة تحت شعار فتح وحماس والانفصام النكد الخبيث بين وطني وإسلامي.
أدرك جيل الأجداد أن وعد بلفور ما كان له أن ينطلق في طريق ترجمته إلى حقائق على الأرض إلا بتفكيك سوريا، لذلك حرصوا كل الحرص على بقاء سوريا واحدة موحدة ,لذلك أجمع شعبنا أمام لجنة (كنغ كرين) سنة 1918 على مطلبين اثنين:
١. التمسك بالوحدة مع سوريا
٢. رفض وعد بلفور
ونجح شعبنا بالتمسك بأرضه لذلك حافظ رغم كل الضغوطات والاغراءات والترغيب والترهيب على94% من أراضي فلسطين.
وبدون العنف الدموي المفرط وجرائم التطهير العرقي مع سبق الإصرار والترصد ما كان من الممكن اقتلاع الشعب العربي الفلسطيني وتهجيره في مشارق الأرض ومغاربها. حينما صدر وعد بلفور كان قد مرّ عقدان على المؤتمر الصهيوني الأول، وعدة عقود على تأسيس حي (مياشيريم) في القدس وعدة مستوطنات حول يافا وفي الجليل. ولولا الصهاينة غير اليهود في بريطانيا وأمريكا لبقي اليهود في فلسطين مواطنين كغيرهم من المواطنين, وكما عاشوا عصرهم الذهبي الجميل في بغداد وقرطبة وغرناطة وفاس، إلا أن نفوذ الصهاينة غير اليهود لم يكن رديفا سياسيا وعسكريا للصهاينة اليهود فحسب، وإنما شرعن مبدأ تدمير الوجود العربي في فلسطين واستئصاله لان فكرة الاستئصال والإبادة هي مكون أساسي من مكونات فكر وتربية وثقافة الصهاينة غير اليهود الذين يقرؤون العهد القديم (التوراة) قراءة حربية عدائية. هذه القراءة شديدة العنصرية التي شرعنت إبادة السكان الأصليين للعالم الجديد بشرياً وثقافياً على يد المستعمرين الإنكليز وغيرهم من المستعمرين.

ومن دواعي القلق الشديد والعميق أن نفوذ ومكانة الصهاينة غير اليهود قد تصاعدت وتطورت في الولايات الأمريكية خلال العقود الأربعة الماضية, مما ترك آثاراً بالغة السوء على القدس وكل فلسطين وعلى العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان، وذلك لان الحرب الأهلية التي تشتعل منذ عدة أعوام وتقتل الناس بالجملة، وتدمر المنازل والأملاك العامة، وتوطن العنف والقبلية والطائفية واللاعقلانية والفساد، إنما هي وثيقة الصلة بفلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك أما التحسن الطفيف لمواقف أوروبا تجاه استغوال الاحتلال جدير بالتقدير ويحتاج إلى مزيد من المواقف التي تسهم في إخراج الفلسطينيين من أسر الاحتلال والمنافي لان مسؤولية أوروبا قانونية وأخلاقية مع إصدار وعد بلفور، بل وقبل وبعد صدوره بسنوات.

وليسقط وعد بلفور